كاهن معاصر، قدّم لنا أيقونة حية للحياة السماوية الجادة المتهللة في الداخل والتي بلاهم. عبر كنسيم هادئ ترك أثاره العذبة علي حياة الكثيرين. سند كهنة كثيرين جدًا وسط آلامهم وقادهم في طريق الإنجيل الحق بروح الحب والتواضع.
الذين عرفوه أو رأوه أو تتلمذوا علي يديه رأوا سلسلة لا تنقطع من قصص معاملات الله الفائقة معه، ونعمة الله السخية في حياته.
نشأته:
ولد ميخائيل في أبريل سنة 1899 وتربي في حضن الكنيسة بكفر عبده والتحق بمدرسة الكنيسة، فالتهب قلبه بحب الله والارتباط بالخدمة. كما التحق فيما بعد بمدرسة الأقباط الكبرى. وعين موظفًا بوزارة الداخلية في مراكز البوليس بفوة ثم شربين فكفر الشيخ، ثم بلبيس فههيا حيث قضي عشرة سنوات (1938 -1948) ثم محافظة الجيزة لمدة ثلاث سنوات. ومنها انتقل إلى الخدمة الكهنوتية في بلدته بكفر عبده، في 16 سبتمبر 1951.
عمله الكهنوتي:
بدأ خدمته في كفر عبده بإلغاء الأطباق لجمع التبرعات حتى يقدم كل واحدٍ لله في الخفاء. كما قام بإلغاء الرسوم علي الخدمات الكنسية، فأحبه الشعب جدًا والتف حوله. وبعد عام من سيامته أعطاه الأسقف القمصية في مايو 1952.
بأبوته الحانية ورعايته لكل بيتٍ، بل ولكل شخصٍ جذب الكثيرين إلى حياة التوبة والاعتراف، من كفر عبده والبلاد المحيطة بها.
انسحابه إلى القاهرة:
أثار عدو الخير شريكه في الخدمة حاسبًا ما يفعله أبونا ميخائيل نوعًا من المغالاة لا معني له. ثار ضده فانسحب أبونا بهدوء إلى أسرته بالقاهرة عام 1955 م.، والتجأ إلى كنيسة دير مار مينا بمصر القديمة، وكان يصلي بحرارة ودموع لكي يفتقد الرب شعبه في كفر عبده.
دعاه أبونا مرقس داود ليخدم معه في قداس الأحد بسبب غياب أحد الآباء الرهبان، واستراحت نفسه له فطلب منه أن يخدم معه، وبقي في خدمته بالكنيسة خميرة عجيبة مقدسة تعمل في حياة الكثيرين، حتى يوم نياحته سنة 1975 م.
باركني يا ابني!
كان أبونا ميخائيل إبراهيم في زيارة أحد العائلات وفجأة قام ليصلي لكي ينصرف. تعجب أهل البيت من تصرفه هذا، فقالوا له:
لماذا أنت مستعجل يا أبانا؟
ابني إبراهيم (روَّح)!
وليكن، فهو ذاهب إلى بيته.
ذهب إلى الفردوس.
بالفعل عرفوا بعد ذلك أنه في هذه اللحظات أسلم ابنه الدكتور إبراهيم الروح وانتقل من هذا العالم.
أذكر ذلك عن الدكتور إبراهيم الذي تحدث عنه والده في جلستنا معًا في منزل المتنيح القمص مرقس باسيليوس، فقد روى لنا هذه القصة.
إذ كنت جالسًا في حجرة الاستقبال بالمنزل وأنا مستيقظ كنت أفكر في مشكلة معينة لا يعرف حقيقتها إلا ابني إبراهيم. رفعت عينيّ وأنا جالس على الكرسي وقلت: "أليس ممكنًا أن ترسل لي يا رب ابني إبراهيم لكي يخبرني بالأمر؟" فجأة وجدت إبراهيم واقفًا أمامي بثوبٍ أبيض جميل. قال لي: "ماذا تريد يا أبي؟"
تطلعت إليه وفرحت جدًا، وقلت له: "أنت لبست الثوب الأبيض يا ابني! لا أريد أن أوسخه لك بالاهتمامات الزمنية... ما أريده هو أن تصلي من أجلي وتباركني".
ختم أبونا حديثه بقوله: "فباركني ابني إبراهيم وانصرف". ربما أختصر بعض أحاديث الحب الروحي والمباركة المتبادلة بينهما!
هل هو صوتها؟!
روى لنا أبونا ميخائيل إبراهيم، نيَّح الله نفسه، هذه القصة التي حدثت معه. جاءه الزوج الشاب يشتكي زوجته، قائلًا: "إنها تسبُني بألفاظ صعبة وقاسية بلا سبب"، ثم بدأ الزوج ينطق ببعض كلمات السبّ، وأبونا يسمع إليه حتى انتهى الزوج من حديثه دون تعليق من جهة أبينا. سأله الأب الكاهن: "هل متأكد أن هذه الكلمات صدرت عن زوجتك؟"
نعم، فأنا لا أكذب.
هل هو صوتها؟
إنه صوتها!
هل أنت متأكد؟
إنها زوجتي، عشت معها كل هذه السنوات، وهي التي تسبّني. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ).
ابتسم أبونا ميخائيل وهو يقول: "إنها ليست زوجتك؛ عدو الخير يتكلم على فمها لكي يحطم بيتكما. هي صالحة، لكن الشيطان يريد أن يهلكها ويهلكك. ارجع إلى زوجتك ولاطفها".
عاد الزوج إلى بيته وصار يُصلي لأجل زوجته ولأجل نفسه، وصار يلاطفها بحبٍ صادقٍ فتحوَّل البيت إلى كنيسة مقدسة مملوءة سلامًا!
درسٌ من شيخٍ ساقطٍ:
ويقول القمص تادرس يعقوب: في بدء خدمتي في الكهنوت جاءني رجل شيخ لا أعرفه وطلب مني أن يعترف. وفي خجلٍ شديدٍ همس قائلًا: "إني لأول مرة أسقط في خطية الزنا". في بساطة ظننته أنه يشكو من نظرةٍ خاطئةٍ هذه التي نحسبها أيضًا زنا... فقال لي إني لست اقصد النظرة. تحدثت معه على أنها لمسة خاطئة، لكنه عاد ليؤكد أنه ارتكب الخطية فعلًا. لم أكن في ذلك الوقت أتصوّر إنسانًا ما يرتكب هذه الخطية.
في مرارة ذهبت إلى أبينا المتنيح القمص إبراهيم ميخائيل وأنا منكسر النفس جدًا. رويت له ما حدث دون ذكر للاسم، خاصة وأن أبانا من القاهرة لا من الإسكندرية. وإذ رآني مرتبكًا للغاية هدأ من روعي قائلًا:
أتعرف لماذا أرسل لك الله هذا الشيخ الساقط؟
لست أعلم!
يريد أن يعطيك في بدء خدمتك الكهنوتية عدة دروس، منها:
الدرس الأول: لا تأتمن جسدك حتى إن بلغت الشيخوخة أو كنت كاهنًا! كن حريصًا وحذرًا!
الدرس الثاني: لا تقسو على شابٍ ساقطٍ، فإن الخطية خاطئة جدًا، وقتلاها أقوياء حتى من الشيوخ... ترفّق بهم لكي تسندهم ضد الخطية.
لست أقول تتهاون مع خطاياهم، لكن لا تُحطم حتى الساقطين، أقمهم بالرجاء الحيّ.
تركني الملاك!
فوجئ المتنيح أبونا يوحنا بكنيسة القديس مارمرقس بشبرا مصر بأبينا القمص ميخائيل إبراهيم بعد أن صرف ملاك الذبيحة ورش الماء، أنه عاد إلى الهيكل بخطواته الهادئة، ثم سجد أمام طفلٍ. قام ليكرر السجود أمامه للمرة الثانية والثالثة.
دُهش أبونا يوحنا للمنظر، خاصة وهو يسمع الكاهن الشيخ يقول للطفل بنغمة مملوءة تواضعًا: "سامحني يا ابني أنا عليت صوتي عليك، سامحني".
قال أبونا يوحنا: "كيف وأنت شيخ يا أبونا تسجد لطفلٍ يُعتبر كأحد أحفادك؟!"
في هدوئه المعهود قال له أبونا ميخائيل:
"لا تعرف يا أبانا ماذا حدث. سأخبرك، لكن أرجوك ألا يعرف أحد شيئًا إلا بعد سفري (انتقالي من العالم).
بينما كنت أذكر أسماء الذين طلبوا مني ذكرهم على القرابين، كنت أرى ملاكًا يقف بجوار المذبح ثم يختفي، وإذ أذكر الاسم التالي يظهر ثم يختفي. وتكرر هذا الأمر حتى رأيت هذا الشماس الصغير يتحرك فشتت أفكاري (مخيلتي)، وإذ صرخت أمامه لكي يهدأ تركني الملاك ولم يعد".
عليك بركة البسها!
إذ ازدحمت الكنيسة بالمصلين في ليلة العيد لاحظ أبونا القمص ميخائيل إبراهيم شابًا يخرج من حجرة الشمامسة وقد تسللت الدموع من عينيه. ذهب إليه في هدوء وابتسامة وربت على كتفيه وهو يسأله عن سبب حزنه. لم يرد الشاب أن يتكلم، لكن أبانا صمم أن يعرف السبب، فقال له الشاب: "لقد أتيت يا أبي متأخرًا وكنت أود أن أخدم شماسًا في ليلة العيد، لكنني لم أجد التونية. لعل أحد الشمامسة الغرباء أخذها ليشترك في الصلاة".
أمسك أبونا بيد الشاب ودخل به إلى حجرة الكهنة وقدم له تونيتة، فرفض الشاب تمامًا، لكن أبانا أصر أن يلبسها الشاب، قائلًا له: "عليك بركة البسها وأخدم، ولا تحزن... افرح، لأنه لا يصح أن تحزن في هذا اليوم!"
ولقد سبق فسجل القمص تادرس يعقوب الكثير من القصص الخاصة به في سلسلة "قصص قصيرة"، وهي موجودة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت.